سميرة ابراهيم الادارة العامة
عدد الرسائل : 1327 تاريخ التسجيل : 25/08/2007
| | ذكرى الجزائر في باريس الغربة والضياع بقلم ياسين تملالي | |
ذكرى الجزائر في باريس الغربة والضياع بقلم ياسين تملالي
قد تكون أجمل تحية للكاتب الجزائري الراحل صادق عيسات ترجمةُ آخر رواياته الى العربية وهي "ندير كيما يدير في البحر العوام"، أو بالعربية الفصحى "كما يفعل في البحر الغريق" ورغبة من المترجم في الحفاظ على روح النص وما يحفل به من أصداء للثقافة الشعبية الجزائرية، اختار للنص العربي عنوانا باللهجة الجزائرية استقاه من كلمات أغنية شهيرة.
ولم يكن من السهل، يقول المترجم، نقل هذه الرواية العصية إلى العربية، ذلك أن فرنسيتها ليست "بالفرنسية المدرسية"، بالإضافة إلى أنها في جزء كبير منها صدى للهجة الجزائرية، خصوصا عندما تتجلى في شكل نص فرنسي لأشعار شعبية.
وتروي الرواية حياة جزائري مهاجر، يعيش في أحد تلك المراكز المخصصة لإيواء المهاجرين والتي تحولت على مر الزمن إلى مأوى لكل المنفيين، بما فيهم أولئك الذين لم يستطيعوا تسوية وضعيتهم مع مصالح الهجرة الفرنسية. يسير البطل في شوارع باريس ويمضي جل وقته في حاناتها المغاربية، باحثا لا عن أنس الرفقة ولا عن الحب الضائع، فقط عن شيء من إنسانية يقتسمها مع بني جلدته وعن ذكرى بلد غادره مرغما. وفي إحدى رحلاته في شوارع عاصمة النور، يتخذ الحب شكل فتاة اسمها سيان.
قُدّمت "ندير كما يدير في البحر العوام" كرواية، لكن من الصعب قراءتها كرواية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. وإن كانت كذلك، فهي أقرب إلى رواية نفسية كتبها صادق عيسات لنفسه ولم يهتم فيها كثيرا بأن يفهم القارئ كل ما يقول. لكنه كان واثقا ربما أن من مروا بتجربته سيفهمون حتما. ما كتب كان أقرب إلى كراسة نفس منهكة، ليس معنيا صاحبها بأن يفهمه الآخرون. إنه تدوين لخلجات الذات أولا.
د.ز. الهارب من بلد يغرق في الحرب يعيش أيامه في فرنسا بلد اللجوء. بلد منحه بطاقة إقامة، لكنه لم يمنح روحه السكينة. في فرنسا يختار د.ز. - أو هكذا يبدو له -، رغم حصوله على بطاقة الإقامة العيش سرا حتى "يضبط نفسه على إيقاع الحياة الفعلي"، وإيقاع الحياة الفعلي هو "رحلات الشارتر، القطارات الليلية والسفن، عيون الكاميرات، خطط فيجيبيرات الأمنية، أجهزة المراقبة، الوشاة، رجال الأمن والعملاء".
لكن هدف العيش سرا في فرنسا البوليس ليس فقط ضبط النفس على "إيقاع الحياة الفعلي"، هو أيضا الوفاء لأرواح عشرات الجزائريين ممن ألقت بهم الشرطة الفرنسية في نهر السين ذات ليلة أكتوبر من عام 1961، بعد أن تظاهروا في باريس مطالبين باستقلال بلدهم. يرى د.ز. في بطاقة الإقامة "أكذوبة تغتصب كينونته كعديم الوطن". مزقها بأناة عندما وقف أمام السين ورنت عيناه إلى الماء، فـ "في عيون انطفأت جذوتها ورفرف سؤال : "قل لي يا ابن بلادي لماذا اغتالونا.. ذات ليلة من أكتوبر، في ضباب باريس البارد؟"
"ندير كما يدير في البحر العوام" أيضا تاريخ لعلاقة حب مع بلد تمزقه الحرب وينخره الفساد، وهي أيضا - وتلك مفارقة - قصة صداقة مؤثرة مع رجل خان في لحظة ما ذلك البلد، فخسر وطنه ولم يكسب في فرنسا التي قاتل من أجلها وطنا بديلا. هذه الإنسانية هي التي تجعل د.ز. يصادق حتى العنكبوتة التي لاذت بغرفته. إنها قصة كل المهاجرين ممن عدموا في فرنسا وطنا حقيقيا، وبات وجودهم فيها "لوثة في عيون الجميع...لا يمكنك حتى مواساتهم..فلم تكن لهم يوما حياة لتعزيهم فيها". هي قصة للاغتراب والفشل، يلخصها ملجأ سوناكوترا المخصص لإيواء العمال المهاجرين،"حيث تمعن بقية من حلم في الكذب على الحياة".
صوت الكاردينال
في كل الرواية يتردد صوت "الشعبي"، صوت ذلك الفن الغنائي الذي يطبع ثقافة العاصمة الجزائرية. يتردد أصلاً ثابتا يطفو من فترة إلى أخرى، ويعود كلما ألمت بـ د.ز. الملمات. عنوان الكتاب في حد ذاته مقطع من أغنية للمطرب الشعبي الجزائري محمد العنقا. "ندير كيما يدير في البحر العوام" جملة تتردد في بداية الراوية عنوانًا وكذلك في خاتمتها. موسيقى العنقة "تتجاوز الأحاسيس" وصاحبها "عنقاء يملك غريزة الزمن."
البحر هو الثابت في الرواية، تكرر لفظا أو معنى نحو ستين مرة. إنه رمز الاغتراب والضياع حتى وإن كنا بضياعنا هذا "نكون رجالا حقيقيين".
الشعبي أيضا، وتحديدا صوت العنقا، يتردد كلما كان شعر د.ز. بحاجة لأن يكتب بصدق عن ذاته. يتردد - وتلك مفارقة أخرى - كلما أحس بحاجة لأن يشعر بضياعه. هذه الموسيقى تشعره بضياعه لكنه لا يهرب منها بل ينشدها. لكن بقدر ما يهزه العنقا، يبقى د.ز. عاجزا عن شرحه لصديقته، سيان، فربما استعصى الأمر على الشرح، "ربما هو من تلك الأشياء التي تنبجس في الدم، وتطفو إلى السطح : وجيف غامض لا نعرف ما هو بالتحديد."
لتفهم العنقا، ربما عليك أن تكون لك جذور في هذا البلد، وذلك ما كانت تفتقده سيان."هذا الموسيقي الجزائري الذي لا تتوقف أشرطته عن الدوران" - كما تقول صديقته الفرنسية - هو الثابت في حياة باريسية كلها شك حيرة.
كقصيدة من قصائد الشعبي، كتب صادق عيسات روايته. يمكنك أن تبدأها من حيثما شئت، فصاحبها لا يبحث عن حبكة لروايته، بل ربما أراد تحديدا نفيها، ففي كل بيت من القصيدة إحساس بالضياع، لا يهم كثيرا تأخيره أو تقديمه : الضياع واحد وأبطاله جميعا يتشابهون.
ياسين تملالي (16 أبريل 2008) | |
|